ولابن إياس الأديب كتاب سماه: ( الدّر المكنون في سبعة فنون) [26] يتحدث فيه عن الفنون الشّعبية، ويحتاج إلى مَن ينفض عنه غبار التّاريخ لاكتشاف الشّاعر والأديب ابن إياس، لعله يكون فذًّا أديبًا كما هو فذ مؤرخًا. إن الأدب الشّعبي كان أدبًا خفيفًا ساخرًا مرحًا، تناول الأمور بمفارقاتها المضحكة، فلم يستثن الشّاعر الشّعبي حتى نفسه من السّخرية والضَّحك. ومع دخول مصر عصر المماليك [ عصر الملوك] - بعد العصر الأيوبي - نراها تستعيد كثيرًا من بهجتها ومرحها في العصر الفاطمي، فتصبح أهم بلد في العالم الإسلامي بعد أن عم سيل التّتار العراق والشّام وكانت الأندلس على وشك الاحتضار، فصارت مصر كعبة الإسلام وملجأ العروبة [27] ومنبت الازدهار والتَّرف الّذي جعل الشّعراء يتصيدون المفارقات بحريّة ومِن دون خوف، عارفين ما للأدب الشّعبي من اعتراف مِن قبل الصَّفوة السَّياسية والأدبية والعلمية في هذه العصور، وعارفين أن الشّعر الشّعبي عرف طريقه إلى قلوب السّلاطين والنقاد والمؤرخين والكتاب والأدباء والشّعراء [28] ، فراحوا ينشدون بحرية ومرح ما يخطر على بالهم مِن دون كبت أو رعب أو خوف عقاب. [1] راسم رشدي: مصر والشّراكسة، ص129.
وعن إياس قال: أنا أُكلِّم الناس بنِصفِ عَقلي، فإذا اختصم إليَّ الاثنان جمعتُ عقلي كلَّه. ومِن نفائس أقواله: ما يَسرُّني أن أكذبَ كذبةً لا يطلع عليها إلا أبي معاويةُ بنُ قرَّة، لا أسأل عنها يومَ القيامة، وأنَّ لي الدنيا بحذافيرها. وقيل له: إنَّك لسريع المِشية، فقال: ذاك أبعدُ مِن الكِبْر، وأقضى للحاجة. وعنه قال: إنَّ الناس لا يَعرِفون عيوبَ أنفسهم وأنا أعْرِف عيبَ نفسي، أنا رجلٌ مكثار ( أي كثير الكلام). وقيل له مرة: ما فيك عيبٌ غير أنَّك مُعجَب بقولك، قال لهم: فأعجبكم قولي؟ قال: نعَمْ، قال: فأنا أحقُّ أن أُعجب بما أقول وما يكون منِّي. روَى إياسٌ عن أنس بن مالك، وعن أبيه معاوية بن قُرَّة، وعن سعيد بن المسيَّب، وعن نافِعٍ مولى ابن عمر، وغيرهم. وممَّن روى عنه: حُمَيدٌ الطويل، وخالد الحذَّاء، وحمَّاد بن سلمة، وشُعْبة، وغيرهم. ومِن اللُّغويين الخليل بن أحمد. ولما تولَّى إياسٌ القضاء فرِح به العلماء، حتى قال أيوب: لقد رمَوْها بحجرِها. وقال إبراهيم بن مرزوق: كنَّا نأتي إياسَ بن معاوية قبل أن يُستقضَى، وكنَّا نكتب عنه الفِراسة كما نكتُب من صاحِب الحديث. مع أنَّ القاضي إياس لم يتولَّ القضاءَ إلا سَنَةً واحدة فقط، ثم ترَكَه كراهة.
من هنا، كان لا بد من الوقوف مع ابن إياس - المؤرخ قبل الشّاعر وهو الّذي اختص بالتّاريخ حتى اعتبره الصَّادق المغني عن السَّيف إذ قال: عوِّلْ على كتبِ التّاريخ واعنَ بها فكم تهزُّ لها الأعطافُ مِن طربِ.. [5] وإذ نال ابن إياس شهرته مِن كتابه التّاريخي الكبير الشَّهير: ( بدائع الزّهور في وقائع الدّهور)، نقرأ في الكتاب الأديبَ والمؤرخ ذا الآفاق الواسعة، تلك السّمة الّتي جمعت مؤرخي تلك الفترة كما قال نقولا زيادة [6] ، فنقرأ الأديب والمؤرخ حر التّعبير؛ وكانت الحرية تمارسها العامّةُ في النّتاج الشّعبيّ في تلك العصور بينما يمارسها المؤرخون في النّتاج التّاريخي ويمارسها الفقهاء الأحرار في النّتاج الفقهي وإلا ما وصلت إلينا سلبيات هذه العصور [7] الّتي تطرق المؤرخون الحديثون في أحكامهم عليها مِن دون أن ينظروا بموضوعية إلى إيجابيات هذه الفترة الّتي تكمن في الازدهار العلمي والأدبي والفني والّذي بلغ ذروته فيها. نقرأ ابن إياس الّذي عاش عصرين وشهد أحداث جيلين: أواخر العصر الترّكي المملوكي ومستهل العصر التركي العثماني، فكان كتابه عظيم الفائدة مِن النَّواحي السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثّقافية، وكذلك من النّاحية الحربية [8].
• وجاءَه دِهْقان فقال: أخْبِرني عن السَّكَر أحرام هو أم حلال؟ قال: حرام، قال: كيف يكون حرامًا؟ أخبرني عن التمر أحلالٌ هو أمْ حرام؟ قال: حلال، قال: فأخبرني عن الكشوث، أحلالٌ هو أم حرام؟ قال: حلال، قال: فأخبرني عن الماءِ أحلال هو أم حرام؟ قال: حلالٌ، قال: فما خالَف بينهما؛ وإنَّما هو مِن التمر والكشوث والماء، أنْ يكون هذا حلالاً وهذا حرامًا؟ فقال إياس للدهقان: لو أخذتُ كفًّا من تراب فضربتُك به أكان يُوجِعك؟ قال: لا، قال: لو أخذتُ كفًّا مِن ماء فضربتُك به أكان يُوجِعك؟ قال: لا، قال: لو أخذتُ كفًّا مِن تِبْن فضربتُك به أكان يُوجِعك؟ قال: لا، قال: فإذا أخذتُ هذا الطين فعجنتُه بالتبن والماء ثم جعلتُه كتلاً، ثم تركتُه حتى يجفَّ، ثم ضربتُك به أيوجعك؟ قال: نعم ويَقْتُلني، قال: فكذلك هذا التمر والماء والكشوث، إذا جُمِع ثم عُتِق حَرُم، كما جُفِّف هذا فأوجع وقتَل، وكان لا يُوجِع. وإلى لقاء آخر إن شاء الله، مع كتاب آخَرَ
تصفّح المقالات
فلما سئل عن كيفية التوصل إلى معلومات دقيقة ، مثل التي أفصح عنها ، فرد قائلًا: " عندما يحل الخوف ، والرهبة ، فإن الإنسان لا يضع يديه ، إلا على أكثر ما يخشى عليه ، وقد لاحظت وقت الخوف ، أن المرأة الأولى وضعت يديها على بطنها ، مما يدل على خوفها على رضيعها ، أما المرأة الأخرى ، فقد وضعت يديها على ثديها ، أما الثالثة ، وهي العذراء ، فما كان منها ، إلا أنها قد وضعت يديها على فرجها ، مما استدللت به ، من أنها بكر. وفي مرة من المرات ، سمع القاضي إياس أحد اليهود ، وهو يقول: " ما أحمق المسلمين! فإنهم دائمًا يظنون أن من يدخلون الجنة ، لا يحدثون أبدًا ، مهما كان ما يأكلون " ، فرد إياس عليه قائلًا: " وهل أنت كلما أكلت شيئًا ، حدثت عنه ؟ " ، فرد قائلًا: " بالطبع لا ، حيث أن الله سبحانه وتعالى ، قد جعله غذاء " ، فرد عليه قائلًا: " فإذا كان الأمر كذلك ، كيف لك أن تنكر ، بأن رب العباد ، يجعل إلى من يدخلون الجنة أكلًا ، هو في أصله ، غذاء لهم ؟ ". وهكذا ، فقد وردت العديد من القصص ، والحكايات الطريفة ، والممتعة في آن واحد ، والتي تكشف عن ذكاء غير معود لدى القاضي إياس ، وفراسته ، التي كانت سببًا رئيسيًا، في تعجب ، وانبهار العديد من القوم ، الذين أذهلهم ما كشف عنه في كثير من المواضع ، وما وافقته من حسن ظنونه ، وتوقعاته ، التي لا يجدر لها أن تخيب.
استنجد ابن إياس بالشّعر تعبيرًا عن "انفعالات" لا يقدر النّثر أن يعبر عنها. استنجد بالشّعر إذ أخذ بعين الاعتبار صوت " إحساساته "، فجعله " وعاء " أدبيًّا معبرًا خير تعبير عن رأيه وآراء الآخرين أيضًا. مِن هنا، نكتشف أن ابن إياس شاعر يثق بأن الشّعر خير معبر أكثر مِن أن نعتبره نظم شعرًا " مجاراة لعصر أراد نفر كثيرون مِن أهله أن يبرزوا في هذا الميدان " [20] ، فكان فريدًا كما قال مارجليوث. كما كان مزيجًا من مؤرخ وشاعر، يحدِّث في التّاريخ بكثير مِن الحق والصّدق، وبكثير من العاطفة الفياضة والجيشات القلبية الّتي تسبغ على كافة الحوادث روعة وتخلع على ضئيلها جزالة وجلالة. يحدّث مسجلاً - إلى جانب موضوعيته وجرأته ومعلوماته ومشاهداته: لفتاته النّفسية وهمساته القلبية وتأثراته العاطفية. يكون مؤرخًا عادلاً منصفًا، محققًا، فاحصًا، يسجل الحوادث أولاً [21] واقفًا بين "الرّواية والأخرى للشرَّح والنَّقد" [22]. بجرأة و" فردية واستقلال في الرّأي " [23] ، ويحكم عليها برأيه [24] وبانفعالاته وإحساساته وعواطفه وحسه الشّعري القادر على إسكان الوهج في سرد الحوادث، وفي تصوير ما يجري. لقد طغى التّاريخ على ابن إياس فعُرف به ولم يعرف على نطاق واسع شاعرًا شعبيًّا وهو الّذي كان حسن الشّعر، كتب الشّعرَ وعنه، وسمى " الزَّجل " - وهو أحد الفنون الشّعبية - " الفنَّ الشَّريف "، وترجم " لقيم الزّجل " في الشَّام وقيم الزّجل في مصر، ونقل نصوصًا زجلية كثيرة عنهما في تأريخه - لولاه - لضاعت كما ضاع الكثير منها [25].
أدباء عصر سلاطين الشراكسة: ابن إياس (1) مدخل: يتضمن هذا الباب فصولاً تشتمل على نماذج من أدباء شراكسة شاركوا في النتاج الأدبي العربي شعرًا ونثرًا، وعبروا عن آمالهم وآلامهم ولا سيما أنهم عاشوا ظروفًا مشابهة لظروفِ أشقائهم العرب فتكاتفوا معهم في المسير والمصير، كما دافعوا عن الإسلام والعروبة بأقلامهم وبأرواحهم. وقد عمدت إلى تقديم بعض هؤلاء الأدباء في نماذج معينة لئلا يطول البحث متّبعةً المنهج الانتقائي، ابتداء مِن عصر سلاطين الشّراكسة حتى اليوم. الفصل الأول: من عصر سلاطين الشّراكسة. نموذجًا: ابن إياس - قانصوه الغوري. أ - ابن إياس: هو محمد بن إياس. شركسي مِن الأبازة [أو الأباظة] [1] ، ولد في القاهرة في 6 ربيع الآخر سنة 852هـ. وتوفي سنة 920هـ. جده الأمير إياس الفخري الظّاهري مِن مماليك السّلطان الظّاهر برقوق أول مماليك دولة الشّراكسة [2] ، وله كتب أهمها: عقود الجمان في وقائع الأزمان، مرج الزّهور في وقائع الدهور، نزهة الأمم في العجائب والحكم [3] ، وعجائب السّلوك، نشق الأزهار في عجائب الأقطار، منتظم بدء الدُّنيا وتاريخ الأمم [4]. وتكمن أهمية ابن إياس في أنه مؤرخ وأديب وشركسي ويكتب عن عصر يحكم فيه سلاطين الشّراكسة كواحد من الشّعب المصري، لا كواحد من الحكام وإن كان واحدًا من الحكام.
ثم أورد بعضَ القضايا المشابهة عن عمرَ بن الخطَّاب وعليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنهما. ثم ختَم القضاء بذِكْر كثيرٍ من مسائل القضاء المرويَّة عن إياس في غيرِ الفراسة، ومنها: • أنَّه جِيء بغلام قد سَرَق أكيسة الحمَّالين، فقامتْ عليه بَيِّنة، فقال: اكشفوا عنه، فكَشفوا فلم يكن احتَلَم، فقال: لو كان احتَلَم لقطعتُه، اذْهَبوا به حيث سَرَق فسوِّدوا وجهَه وعَلِّقوا في عُنقه العِظام، واضْربوه حتى يدمى ظهرُه، وطوفوا به، فجاء رجلٌ يسعى فقال: أصلحَك الله، إنَّه مملوك لي، فإن فعلتَ ذاك به كسرتَ ثمنَه، فقال إياس: يعمد أحدُكم إلى الغلام لم يحتلمْ فيُكلِّفه الضريبة، ولا يُحسن عملاً يعمله، فإنَّما يأمره أن يسرِقَ ويُطعمه، ويعمد أحدُكم إلى الجاريةِ فيقول لها: اذْهبي فأدِّي الضريبة، فإنَّما يقول لها: اذهبي فازْني وأطعميني. • وسأله بعضُهم: بلغَني أنَّك لا تجيز شهادةَ الأشراف بالعراق، ولا التجار، ولا الذين يركبون البحر، فقال: أجَلْ، أما الذين يركبون البحر؛ فإنَّهم يركبون إلى الهِند حتى يُغرَّر بدِينهم ويُمكِّنوا عدوَّهم منهم مِن أجْلِ طمع الدنيا، فعرفتُ أنَّ هؤلاء إنْ أُعطي أحدهم دِرهمين في شهادتهم لم يتحرَّجْ بعدَ تغريرِه بدِينه، وأما الذين يتَّجرون في قرى فارس؛ فإنَّ المجوس يطعمونهم الرِّبا وهم يعلمون، فأبيتُ أن أُجيز شهادتهم لأجْلِ الرِّبا، وأما الأشراف؛ فإنَّ الشريف بالعراق إذا نابت أحدًا منهم نائبةٌ أتى سيِّدَ قومه فشَهِد له وشَفَع.